ليبيا
الموقع
تقع ليبيا في شمال أفريقيا على ساحل البحر الأبيض المتوسط الذي يحدها شمالاً، ومن الشمال الغربي تونس، ومن الغرب الجزائر، ومن الجنوب الغربي النيجر ومن الجنوب تشاد، ومن الجنوب الشرقي السودان، ومن الشرق مصر. معظم الأراضي الليبية جزء من الصحراء الكبرى، كما يوجد فيها عدة مرتفعات كالجبل الأخضر وجبل عوينات وسلسلة جبال الحجار وكثير من الواحات.
عاصمتها طرابلس الغرب، وأهم المدن: بنغازي، مصراتة، طبرق.
وتبلغ مساحة ليبيا 1,775,500كم2 وعدد السكان بلغ حوالي 5 ملايين نسمة.
نبذة تاريخية:
لقد ارتبط تاريخ ليبيا بتاريخ شمال أفريقيا والمغرب العربي، فظهرت فيها عدة حضارات بداية بحضارة «دابا» في منطقة الجبل الأخضر حوالي 10,000 ق.م. ومن برقة انطلقت حضارة العصر الحجري الحديث محققة بداية الثورة الزراعية التي أدت إلى تحقيق تقدم نسبي في المجالات الزراعية. وقد استمرت هذه الحقبة حتى 4000 ق.م. حيث دخل الإنسان عصر البرونز حوالي 2500 ق.م. بعد تلك المدة تبعت المنطقة للدولة الفينيقية التي كانت تبني لها مراكز مختلفة على طول ساحل البحر المتوسط. وكان لها في ليبيا مركز مهم وهي مدينة لبدة التي لا تزال آثار قلعتها شاهدة على ضخامة تلك الحضارة. ومع تسلم الفينيقيين البلاد أقاموا فيها، وبنوا فيها عدة قلاع أخرى واستقروا فيها حتى مجيء الرومان الذين مكثوا في البلاد حتى مجيء الإسلام.
العهد الإسلامي:
عين الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن العاص قائداً للجيش الإسلامي الذي وجهه لفتح مصر في عام 20 هـ. فسار عمرو باتجاه الغرب ففتح برقة وصالح أهلها، وأرسل عقبة بن نافع ففتح (زويلة) واتجه نحو بلاد النوبة، ثم انطلق عمرو إلى طرابلس الغرب ففتحها بعد حصار دام شهر وذلك في عام 27 هـ كما فتح صبراته وشروس. ثم منعه الخليفة أن يتقدم أكثر من ذلك.
وعند تسلم الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه زمام الحكم سمح بإكمال مسيرة الفتح باتجاه المغرب. وأرسل عبد الله بن سعد بن أبي سرح على رأس قوة، فاجتاز طرابلس، واستولى على سفن الروم كانت راسية هناك على الشاطىء. وبذلك وضع المسلمون أيديهم على هذه المنطقة.
وقد تبعت ليبيا لولاية أفريقيا في العهد الأموي وأول العهد العباسي. في عهد نشوء الدويلات في العصر العباسي الثاني تعاقب على السيطرة على ليبيا عدة إمارات ودويلات كالأغالبة والدولة العبيدية أو الفاطمية ثم المماليك.
وبعد سقوط بلاد الأندلس بيد الإسبان، وخروج المسلمين منها عام 898 هـ. بدأت الأطماع الاستعمارية تتجه نحو السواحل المواجهة لبلاد الأندلس وما جاورها. وفعلاً فقد انسلوا من مواقعهم واحتلو بعض المناطق على شواطىء البحر المتوسط.
وقد لحقت باقي دول أوروبا بالإسبان في غزوهم لهذه المناطق. فانطلق الطليان بقيادة «فيليب دوريا» بزيارة ودية لمدينة طرابلس الغرب فغدروا بأهلها واحتلوها وكانت ليبيا تحت حكم الحفصيين من عام 1207م. ولم يخرجوا منها إلا بعد أن افتداها أمير مدينة قابس الحفصي بمبلغ كبير من الذهب.
وفي عام 916 هـ. تعرضت منطقة برقة الليبية للاحتلال من قبل فرسان مالطة (فرسان القديس يوحنا الأوشليمي)، غير أن المماليك عادوا وأخرجوهم منها بالقوة. وفي العام نفسه دخلت قوة إسبانية مدينة طرابلس بقيادة «بترونافار» وفي عام 936 هـ قرر «شارل الخامس» ملك اسبانيا التنازل عن طرابلس لفرسان مالطة مقابل مساعدتهم للإسبان في الأعمال البحرية ضد العثمانيين.
وهكذا بقي فرسان مالطة في طرابلس حتى عام 958 هـ. حيث جاء العثمانيون.
الصراع العثماني الأوروبي في ليبيا:
عمل العثمانيون على تطهير البلاد العربية والإسلامية من الاحتلالات الصليبية، ولهذا السبب وصل القائد العثماني «سنان باشا» إلى طرابلس، واستطاع قائد البحرية في الجيش العثماني (طرغول) دخولها عام 958 واخراج المالطيين منها المدعومين من إسبانيا. وقد حاولت اسبانيا العودة إلى ليبيا إلا أن محاولاتها جميعها باءت بالفشل. أما منطقة برقة والتي كانت تتبع المماليك، فلما حل العثمانيون محلهم في مصر عام 921 هـ تبعتهم منطقة برقة بطبيعة الحال.
وهكذا أصبحت ليبيا ولاية عثمانية، وكان «مراد آغا» أول والٍ عثماني على البلاد. ومن أهم آثاره المسجد الذي لا يزال قائماً حتى الآن في مدينة «تاجوراء». واستمر الولاة العثمانيون يتعاقبون على الحكم حتى عام 1123 هـ/1711م. حيث استقل في البلاد، «أحمد القره مانلي» الذي أسس اسرة استمرت تحكم المنطقة ولم يكن يربطها بتركيا شيء في هذه الفترة إلا دفع الجزية السنوية.
إلا أن احتلال الفرنسيين للجزائر، وتمرد محمد علي في مصر واحتلاله لبلاد الشام، دعا بالدولة العثمانية إعادة التفكير بجدية في ليبيا، فأرسلت حملة عسكرية قضت على الدولة القرمانية وأعادت ليبيا إلى الدولة العثمانية، وراحت ترسل الولاة من جديد، وعملت على إثارة العاطفة الإسلامية، كما عملت على تخفيف الضرائب عن السكان في محاولة منها لتحسين الأوضاع الاقتصادية.
ولزيادة عدد المسلمين في ليبيا، قامت الدولة العثمانية بإسكان بعض العائلات الكردية المسلمة في منطقة سرت، وقدمت لها المساعدات لتقوم بالزراعة، إلا أن المشروع قد فشل.
الاحتلال الإيطالي:
كانت إيطاليا تعد تونس وليبيا مناطق نفوذ لها بعد احتلال فرنسا للجزائر. فقد هاجر عدد من الطليان إليها، وأنشؤوا شركات تجارية، وبنوا المدارس النصرانية لأفراد جاليتهم، إلا أن فرنسا عملت على احتلال تونس، وقد ساعدتها الظروف السياسية على ذلك، فوجهت إيطاليا عند ذلك نظرها إلى ليبيا، وخاصة بعد أن هزمت ايطاليا في القرن الأفريقي الغربي، وقد وقفت ايطاليا إلى جانب فرنسا في العديد من المواقف الدولية املاً بأن تقف فرنسا مع إيطاليا في قضية احتلال ليبيا.
وكذلك جرى الاتفاق مع إنكلترة مقابل أن تقوم إنكلترا باحتلال مصر. وهكذا جرى تقسيم بلدان شمالي أفريقيا بين هذه الدول الأوروبية.
أصبح الطريق أمام إيطاليا مفتوحاً إلى ليبيا، لكنها كانت تنتظر المناسبة، فعمدت إلى فتح فرع لبنك دي روما في طرابلس، وراحت تقدم المساعدات المالية للفلاحين، وعندما يتعذر على الفلاحين تسديد ديونهم كان البنك يستولي على أراضيهم. كما أرسلت الدولة الإيطالية بعثات التبشير النصرانية الكاثوليكية، وبدأ الغزو الفكري.
وعند ذلك شعرت الدولة العثمانية بالخطر الآتي من إيطاليا فعملت على إرسال كميات من الأسلحة إلى ليبيا، فاحتجت إيطاليا بشدة وطلبت من العثمانيين الانسحاب خلال 24 ساعة من ليبيا، والتخلي عنها لمصلحتهم.
وقد ساعد إيطاليا على ذلك، الضعف الذي حلَّ بالدولة العثمانية إثر الانقلاب الذي حل بالدولة العثمانية ومجيء جماعة الاتحاد والترقي إلى الحكم، وقد لمست إيطاليا هذا الضعف تماماً.
ومع انتهاء المدة المحددة، قامت البوارج الإيطالية بضرب مدينة طرابلس واحتلالها واحتلال أيضاً مدينة بنغازي في برقة، كما دخلت مدينة طبرق. وعملت إيطاليا على توسيع رقعة المعركة كي تضغط على الدولة العثمانية، فاحتلت الجزر القريبة من سواحل الأناضول ورودوس، وأرسلت أسطولاً ضرب بيروت.
وهذا ما أجبر العثمانيين على عقد معاهدة (أوشي) مع إيطاليا قرب لوزان، تنازلت فيها عن ليبيا لأيطاليا وذلك عام 1330 هـ/1912م.
وقد واجه الإيطاليون عند احتلالهم ليبيا المجاهدين المتطوعين للدفاع عن أرضهم بقيادة أحمد شريف السنوسي، وكان هناك أيضاً بعض القوات العثمانية بقيادة عبد العزيز علي المصري في منطقة برقة، فوقعت فيها أشرس المعارك قرب الساحل وأشهرها معركة يوم الجمعة في 10 جمادي الآخرة 1331 هـ/1913 م، وقد اشترك فيها أيضاً أحمد شريف السنوسي بنفسه، وهُزم الطليان وفشلوا في احتلال الجبل الأخضر.
واستطاع الطليان الوصول إلى فزان واحتلال واحة مرزوق وبدأت بعد ذلك حرب العصابات حيث استطاع المجاهدون إجبار الإيطاليين على ترك فزان وحصرهم ثانية في الساحل.
المجاهدون الليبيون:
اندلعت الحرب العالمية الأولى 1914 م ـ 1333 هـ. ودخلت تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا، وأرسلت بعض قادتها إلى ليبيا لمحاربة الطليان.
من أهم هؤلاء القادة: نوري بك، وجعفر العسكري، وعبد الرحمن عزام. فقامت بعض المعارك التي استطاع فيها المسلمون الانتصار على القوات الإيطالية.
وعندما انتهت الحرب بهزيمة ألمانيا وشركائها ومن بينهم تركيا، سحبت هذه الأخيرة قواتها من ليبيا، فبقي هؤلاء القادة الذين بادروا إلى جمع زعماء القبائل والأعيان لتوحيد جهودهم في سبيل تأليف حكومة من أبناء البلاد.
وقد أنتخب الزعماء مجلساً جمهورياً مؤلفاً من خمسة أعضاء واختاروا عبد الرحمن عزام ليكون مستشار لهذه الهيئة التي استمرت لمدة خمس سنوات وكان مقرها مدينة (مسلاته).
وكان زعماء الحركة السنوسية قد بايعوا محمد إدريس السنوسي الذي قاتل الطليان وهزمهم، فاضطروا إلى إبرام اتفاقية معه اعترفوا له بنفوذه على بعض المناطق. عقد الليبيون مؤتمراً عاما 1339 هـ/1920 م في مدينة سرت حضره ممثلون عن السنوسيين وعن منطقة طرابلس، وكان قد وقع الخلاف بين زعماء طرابلس وبرقة. وتمت فيه البيعة إلى محمد ادريس السنوسي. وكان الطليان قد استعدوا فشنوا هجوماً على طرابلس ولم يستطع المجاهدون الوقوف بوجههم، فاحتلوها في أيلول 1923م. وقضوا على الجمهورية الأولى. أما في برقة، فقد أعطى السنوسي القيادة فيها إلى المختار (عمر بن مختار بن عمر المنفي) الذي اتخذ مدينة شحات في الجبل الأخضر مقراً لقيادته، وراح يهاجم القوات الايطالية ويحرز الانتصارات الباهرة عليها.
تسلم موسوليني زعامة إيطاليا وغير سياسة إيطالية اللينة في ليبيا إلى الشدة. فنقض الاتفاقات المعقودة مع حكومة محمد إدريس السنوسي ورفض الاعتراف بالمحاكم الشرعية في المناطق التي يسيطر عليها الطليان، وأبى إلى أن يكون الجميع خاضعاً لإيطاليا، وعين لهذا الغرض حاكماً جديداً هو «بونجيوفاني» وزوده بصلاحيات واسعة وجيش كبير بقيادة اللواء «غرازياني» واللواء «بادوليو».
شنت القوات الإيطالية حرب إبادة بشعة بكل معنى الكلمة ضد الشعب الليبي وكان محمد إادريس السنوسي قد اخطر إلى ترك ليبيا والإقامة في مصر، تاركاً أمر الجهاد للقائد عمر المختار الذي كان يقوم بعمليات حرب عصابات في منطقة الجبل الأخضر.
وقد بقي على جهاده هذا طيلة ثمان سنوات، وقد ألحق بالطليان خسائر فادحة. وقد قدر عدد الشهداء الليبيين في السنوات العشر الأولى من الاحتلال الايطالي بسبعين ألف شهيد بعد ذلك شنت القوات الإيطالية هجوماً كاسحاً على مدينة أجدابيا العاصمة السنوسية في نيسان 1923 فدخلتها، ثم دخلت إلى واحة جغبوب، بعد تنازل الانكليز عنها وتقدم الطليان فاحتلوا العقيلة ومرزوق وغات وبذلك سيطروا على فزان، ثم أسقطوا واحات الكفرة، آخر معاقل السنوسيين وبذلك سيطروا على فزان، ثم أسقطوا واحات الكفرة، آخر معاقل السنوسيين عام 1931 م/1349 هـ. وبذلك عزل الجبل الأخضر من كل ناحية، وبقي من المجاهدين عمر المختار مع جماعته فقط. فأعلن عن استئناف الجهاد المقدسضد الاحتلال الإيطالي واستمر في جهاده في هذه المرحلة عشرين شهراً، إلى أن وقع يوماً في كمين للايطاليين فاصطدم معهم، واستشهد أكثر فرسانه، وسقط هو مثخناً بالجراح، وقد قتل حصانه، فحمله الأعداء أسيراً دون أن يعرفوه وذلك في 29 ربيع الثاني 1350 هـ/11 أيلول 1931 م وعندما عرفوه، نقلوه في طراد سريع اسمه «أوسيتي» إلى سوسة، حيث حوكم محاكمة صورية وأجاب من غير خوف فاعترف بمسؤولياته كلها عن أعمال المقاومة والجهاد ضدهم، فقررت المحكمة إعدامه رغم سنه الذي جاوز الخامس والسبعين، فأعدم في اليوم التالي في 16 أيلول 1931 بمركز «سلوق» في بنغازي.
كانت من أهم المعارك التي خاضها المختار ضد الطليان «الرصيبة» و«عقيرة المطمورة» و«كرسة».
وباستشهاد المختار ضعفت المقاومة بشكل كبير، حيث أقدمت السلطات العسكرية الايطالية على إغلاق الزوايا السنوسية.
وقد واصل الايطاليون استباحتهم للشعب الليبي، فوصل عدد الشهداء إلى 570928 شهيد إضافة إلى مصادرتهم الأراضي الليبية من أصحابها، وشجعوا هجرة الايطاليين إلى ليبيا وأمدوهم بالأموال وفتحوا لهم المدارس.
وفي 19 ذي القعدة 1357/9 كانون الثاني 1939 م أي قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بتسعة أشهر أعلنت إيطاليا ضم طرابلس وبرقة إلى ليبيا (سابقاً، ليبيا بالأصل تطلق على الصحراء التي تقع غرب نهر النيل وجنوب برقة وطرابلس) ومنحت للسكان الجنسية الإيطالية وألزمتهم على تعلم اللغة ومن عارضها هتكت عرضه، وألقت كثيراً من الناس من الطائرة وهم أحياء إلى غير ذلك من الأعمال الوحشية.
وعلى صعيد النضال، فقد أسس بشير السعداوي جمعية الدفاع الليبي في دمشق عام 1347 هـ وطالبت بتشكيل حكومة ليبية وطنية ذات سيادة وبانتخابات شرعية وجعل اللغة العربية لغة رسمية. كما تأسست في مصر جمعية أخرى برئاسة أحمد السويحلي عام 1362 هـ. وقد بقيت الأمور على ما هي عليه حتى الحرب العالمية الثانية.
الحرب العالمية الثانية على الأراضي الليبية:
اندلعت الحرب العالمية الثانية في 17 رجب 1358 هـ/1 أيلول 1939م. ودخلت فيها إيطاليا إلى جانب ألمانيا واليابان، بينما كانت فرنسا وأنكلترا والولايات المتحدة في الطرف الثاني.
فأصبحت الساحة الليبية ساحة معركة لوقوعها بين الفرنسيين من جهة الغرب (في تونس والجزائر) والإنكليز من جهة الشرق (في مصر)، إلا أن الفرنسيين لم يشعلوا جبهتهم لقيام ألمانيا بغزو فرنسا واحتلالها باريس، فكانت معركة الإيطاليين مع الإنكليز من جهة الشرق وقد استغل الإنكليز وجود السنوسي الزعيم الليبي في الأراضي المصرية بعدما أخرج من ليبيا، فعمدت إلى دعمه بالمال والسلاح حتى يعود ثانية إلى ليبيا ليكون رأس حربة لها.
إلا أن إيطاليا كانت السباقة لأشعال نار هذه الجبهة بمساعدة من ألمانيا، فقام «رومل» بقيادة الجيشين الألماني والإيطالي بهجوم على القوات الإنكليزية في مصر، فجمع الإنكليز قواتهم الأسترالية والنيوزيلاندية والهندية وقاموا بهجوم مضاد أعاد الألمان والطليان، فعاود رومل هجومه الكاسح واستطاع اختراق الحدود مجدداً ووصل إلى منطقة العلمين باتجاه الاسكندرية إلا أن القائد الانكليزي مونتغمري الذي عين لقيادة الجيش استطاع كسر جيش الألمان وتوغل في الحدود الليبية حتى دخل إلى طرابلس الغرب في 17 محرم 1362/ 23 كانون الثاني 1943 وانسحب الطليان من ليبيا بعد اسبوعين من احتلال طرابلس.
ليبيا تحت الاحتلالات الأجنبية المتعددة
وبينما كانت القوات الإنكليزية تتقدم من الشرق وتنهار المقاومة الألمانية والإيطالية، كانت القوات الفرنسية تتقدم من الجنوب، فأصبحت ليبيا محتلة من قبل عدوين، فأقدمت إنكلترا على إقامة حكم عسكري في كل من برقة وطرابلس، وأقامت فرنسا حكماً عسكرياً في فزان، وحصلت الولايات المتحدة على قواعد جوية.
قامت مقاومة سلمية في بعض المناطق، فمثلاً في منطقة الاحتلال الفرنسي، فقد وعد ديغول الذي تسلم الحكم في فرنسا، وعد السكان بالطمأنينة والأمن، فلم تقم أي جمعية سياسية...
أما في المنطقة الانكليزية (برقة وطرابلس) فقد اختلف الوضع، فقد أُنشئت النوادي السياسية والمجلات، وكذلك قامت رابطة الشباب الإسلامية. كان الجميع يطالب بأمر واحد وهو إمارة السنوسي على الأقسام الثلاثة المجزأة ومن ثم الوحدة فيما بينها.
وقد استطاع السنوسي كسب المعركة مع الإنكليز إذ أن الشعب أصر على عودة السنوسي من مصر لتسلم زمام الأمور في البلاد. وبالفعل ففي الأول من رمضان 1365 هـ/29 تموز 1946 رجع السيد محمد إدريس السنوسي الذي طلب من كافة الهيئات السياسية في برقة حل نفسها لتشكيل مؤتمر جديد عين أعضاءه السنوسي، حيث كانت الدعوة بداية لاستقلال برقة. أما في طرابلس فقد كانت الاتجاهات السياسية تنطلق من الوحدة بين الأقاليم كلها، وقد عملت الهيئات السياسية والنوادي التي تأسست على هذه المطالب.
وقد طلب وفد طرابلسي من السنوسي أن يتسلم إمارة البلد، فطلب من الهيئات السياسية في طرابلس أن تحل نفسها لتشكيل هيئة واحدة، وقد عمل رئيس الجامعة العربية عبد الرحمن عزام على ذلك فساهم في تسوية الأمور، وحلت الهيئات السياسية نفسها في 13 أذار 1947 وشكلت ما عرف بـ«هيئة تحرير ليبيا» وكان من بين أعضائها البارزين: بشير السعداوي، محمود المنتصر، أحمد السويحلي، طاهر المريض، منصور قدارو، وجواد ذكرى، وقد أرسلوا وفداً إلى بنغازي حيث التقى بالسنوسي لبحث موضوع الوحدة.
غير أن السنوسي كان يريد استقلال برقة، لأن الانكليز قد سمحوا بإقامة الدولة على هذا الإقليم فحسب أما المناطق الأخرى فلا يزال النفوذ الأجنبي فيها (فرنسا ـ إنكلترا).
وقد عجزت أي من الدول الأوروبية أخذ موافقة الدول الأخرى على أن تكون ليبيا تحت وصايتها، فحول الأمر إلى الأمم المتحدة التي درسته وقررت في 30 محرم 1369 هـ/21 تشرين الثاني 1949 اعلان استقلال ليبيا، وقد عارضت كل من فرنسا وإنكلترا هذا القرار (علماً أن هذا الاستقلال عُلق حتى عام 1952م.
عمل ادريس السنوسي بعد المؤتمر البرقاوي في الأول من حزيران 1949 على اعلان استقلال اقليم برقة، فاعترفت به إنكلترة مباشرة. لقي هذا القرار استياءاً شعبياً ليبياً وعربياً عارماً إذ قامت مظاهرات عنيفة تندد بالقرار، كذلك كانت ردة الفعل في الدول العربية والإسلامية كما أرسلت هيئة تحرير ليبيا إلى السنوسي تخبره بعدم اعترافها بما حدث، وخطر ذلك على وحدة الأراضي الليبية، إلا أن السنوسي تابع نهجه فشكل أول حكومة برئاسة فتحي الكينحيا وجرت الانتخابات وتألفت الجمعية الوطنية التي أصدرت قانون الجنسية البرقاوية.مع كل ذلك إلا أن الوفود لم تتوقف عن مطالبة السنوسي بتصحيح هذا الخلل.
استقلال المملكة الليبية
ومع اقتراب موعد الاستقلال التام، دعا مندوب الأمم المتحدة «ادريان بلت» إلى أن يحتفظ المعتمد البريطاني في برقة ، ورئيس الادارة البريطانية في طرابلس، والمعتمد الفرنسي في فزان، بجميع السلطات التنفيذية، والخارجية، والمالية، إلا أن المعارضة كانت من داخل الأمم المتحدة عبر مندوبي مصر وباكستان (وهما أعضاء المجلس الاستشاري الذي شكلته الأمم المتحدة إضافة إلى فرنسا وإيطاليا وإنكلترا والولايات المتحدة).
بعد ذلك قررت هذه اللجنة تشكيل لجنة تتألف من واحد عشرين عضوا ممثلين عن الأقاليم كلها. وقد وفقت لجنة الأمم المتحدة بإجراء هذه الانتخابات وتشكيل الجمعية الوطنية التي عين أعضاؤها بالتساوي بين الاقاليم الثلاثة. ووضعت دستوراً للبلاد، وقررت الحكم الاتحادي ومبايعة محمد إدريس السنوسي ملكاً على البلاد في 20 ذي العقدة 1369 هـ الموافق 2 أيلول 1950م.
عهد الملك محمد ادريس السنوسي:
كانت كل ولاية تظن أن لها الحرية التامة في التصرف ضمن أراضيها، بل راحوا يتفاوضون حول تحديد الحدود الفاصلة فيما بينهم. إلى جانب هذه الأوضاع السيئة، كانت المملكة الليبية تعيش تحت وطأة ثلاث معاهدات مع ثلاث دول غربية هي: إنكلترا وفرنسا والولايات المتحدة.
مع إنكلترا:
كانت المعاهدة التي تنص على منح المساعدات الدائمة إلى ليبيا على أن يكون لإنكلترا موظفين دائمين مشرفين على الأمور المهمة في البلاد داخلياً وخارجياً وقد تم التوقيع على هذه المعاهدة في 18 ذي العقدة 1362 هـ/29 تموز 1953م. وقعها رئيس الحكومة محمود المنتصر.
مع الولايات المتحدة:
وقد منحت هذه الاتفاقية الولايات المتحدة حق البقاء في قاعدة الملاحة (هويلس) مدة عشرين عاماً وحرية تنقل القوات الأمريكية في البر والبحر والفضاء مقابل مساعدة أمريكية قيمتها مليون دولار (عدلت فأصبحت 4 ملايين دولار) وقد وقع هذه المعاهدة وزير الخارجية الليبي وهبي البوري «في حكومة عبد المجيد الكعبار».
مع فرنسا:
وقعت الحكومة الليبية يوم الاستقلال معاهدة عسكرية مؤقتة مع فرنسا سمحت بموجبها للقوات الفرنسية بالبقاء في منطقة فزان مقابل مساعدة مالية تقدمها إلى المجلس التنفيذي في تلك الولاية، ثم عدلت هذه المعاهدة إلى انسحاب القوات الفرنسية، ولكن السماح للطائرات الفرنسية، وبناء على إشعار مسبق، بالهبوط في مطاري «سبها» والاقلاع منه وكذلك الأمر في مطار «غات» «وغدامس» لمدة سنتين. وقد صودق على هذه المعاهدة في 8 شعبان 1375 هـ/20 أذار 1956م.
بدأ وعي الشعب الليبي نتيجة مطالبة بعض النواب تحرير ليبيا من هذه القيود إلى جانب أخبار الوطن العربي وخاصة في مصر، إذ كان جمال عبد الناصر يتزعم الحركة القومية ويطالب بالوحدة العربية ويندد بالاستعمار الغربي على الدول العربية ويساعدها في نيل استقلالها.
ونتيجة لهذاالضغط الهائل، عملت الحكومات المتعاقبة في ليبيا إلى بحث قضية المعاهدات مع هذه الدول، وطلبت منهم سحب قواتهم من الأراضي الليبية.
ثم جاءت أحداث حرب 5 حزيران 1967 وظهر الدعم الإنكليزي الأمريكي لليهود، فثارت ثائرة الشعب الليبي وجرت محاولات لحرق سفارتيهما في بنغازي. فتزايد الضغط على الحكومات في هذا المجال، فكانت كل حكومة تدخل في المفاوضات مع البلدين لسحب قواتهما، وقد وافقت بريطانيا وأميركا على الدخول في المفاوضات لإنهاء الوجود العسكري من ليبيا.
عهد الرئيس معمّر القذافي:
بدأت الأوضاع المادية في المملكة الليبية تتحسن بعد ظهور النفط وزيادة مردوده. فأخذ الناس يتطلعون إلى خارج منطقتهم، فأدركوا أن سياسة دولتهم الخارجية لا تتعاطى مع القضايا العربية كما يجب وخاصة القضية الفلسطينية، وقضية الاعتداءات الإسرائيلية على الدول العربية (مصر، سوريا، الأردن، فلسطين)، إضافة إلى ذلك ممارسات بعض رموز الحكم من وزراء ووغيرهم التي كانت تدل على سلطة الاستبداد التي كان يمارسها أولئك. كل هذه الأسباب مجتمعة جعلت الشعب الليبي تواقاً للتغيير في نظام الحكم.
وبدأ التخطيط وتوحيد الجهود في الجيش الليبي، الذي كان على صلة كبيرة مع القيادة المصرية وفي الأول من أيلول 1969 م/19 جمادى الآخرة 1389 هـ. تحرك الجيش الليبي بقيادة العقيد معمر القذافي وقضى على الوضع القائم الذي وجده هشاً، إذ أن نقمة الشعب عليه كانت عارمة، وتشكل المجلس الأعلى لقيادة الثورة، برئاسة القذافي وعضوية اثني عشر ضابطاً أهمهم: عبد السلام جلود وبشير الصغير هوادي.... وأعلن عن قيام الجماهيرية الليبية.
وأول أعمال هذا العهد الطلب من الولايات المتحدة الأمريكية الدخول في مفاوضات بشأن الجلاء عن قاعدة الملاحة، وبعد فترة قصيرة سلمت الولايات المتحدة القاعدة لليبيين وقد أطلق عليها قاعدة «عقبة بن نافع». كما اتفق العهد الجديد على إلغاء المعاهدة المعقودة مع إنكلترا، فانسحبت الأخيرة من ليبيا.
وبعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر عام 1970 م/1390 هـ. أعلن قائد الثورة الليبية أنه الوريث له في الزعامة العربية. وأخذ يتحرك في مختلف المجالات بما يرضي الأمة العربية والإسلامية.
فأخذ يهاجم الشيوعية ومبادئها، وعمل على إقامة اتحاد الجمهوريات العربية المتحدة الذي تألف من ليبيا ومصر وسوريا، كما دعم الثورة الإسلامية في تشاد ضد الأقلية المتسلطة التي أقامها الاستعمار الفرنسي. وساعدت الثورة الليبية المسلمين في أوغندا ودعمت الرئيس عيدي أمين، وأيدت باكستان عندما اعتدت عليها الهند.
ودعمت ليبيا وبشكل مطلق القضية الفلسطينية، كما ساعدت بعض الدولة العربية اقتصادياً بعد مدة وجيزة بدأت السياسة الليبية تتوجه نحو الشرق (الاتحاد السوفياتي السابق) وابتعدت عن السياسة الأمريكية، حتى أصبح هناك عداءاً ظاهراً انقلب إلى أعمال عسكرية فيما بعد.
وفي شهر أذار 1977 م/ربيع الأول 1397 هـ. جرت انتخابات مجلس الشعب، وأنتخب المجلس العقيد معمر القذافي رئيساً للدولة. فأصدر كتابه «الكتاب الأخضر» وأعلن ولادة «الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى» والتي يتولى فيها الشعب السلطة المباشرة عبر إقامة المؤتمر الشعبي العام وهو بمثابة برلمان.
العلاقة مع الغرب:
في عام 1983 أعلن الرئيس الليبي أن خليج سرت كله ضمن المياه الإقليمة وليس المسافة المعروفة دولياً التي هي 12 ميلاً بحرياً.
وفي كانون الأول 1985 رسم الرئيس الليبي خطاً سماه «خط الموت» لا يسمح للسفن الأمريكية والأجنبية تجاوزه نحو الجنوب فازداد التوتر بين البلدين، فنشرت القوات الأمريكية اسطولها على طول الساحل الليبي.
وفي رجب 1406 هـ/أذار 1986 م أطلقت القوات الليبية صواريخ باتجاه طائرات أمريكية حلقت فوق خليج سرت، فهاجمت طائرات أمريكية تجهيزات الرادار ومواقع الصواريخ الليبية، كما هاجمت أربعة زوارق بحرية.
وفي شعبان 1406 هـ/ نيسان 1986 م أغارت الطائرات الأمريكية على مواقع عسكرية ليبية ومطارات ومبان حكومية ضمنها مسكن الزعيم الليبي.
ولم تكتف الولايات المتحدة بهذه العمليات، بل قامت في جمادى الأولى 1409 هـ/كانون الثاني 1988 م بضربة عسكرية ضد مصنع للأسلحة قرب بنغازي وحصل اشتباك بين الطائرات أسقط خلاله طائرتين ليبيتين في جمادى الآخرة/كانون الثاني 1989م.
في عام 1990 اتهمت ليبيا بالاشتراك مع سوريا والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بأنهم وراء تفجير الطائرة الفرنسية فوق النيجر قبل عام، إلا أنها نفت ذلك.
وفي حرب الخليج الثانية، شارك العقيد القذافي في قمة القاهرة التي عقدت عقب الاجتياح العراقي للكويت في 10 آب 1990/19 محرم 1411 هـ. لكن ليبيا لم تصوت إلى جانب القرار القاضي بإرسال قوات عسكرية مع الولايات المتحدة للوقوف في وجه الجيش العراقي.
حادثة لوكربي:
وجاء الحدث الأهم في تاريخ الجماهيرية الحديث في 14 تشرين الأول 1989 عندما اتهمت الولايات المتحدة الأمريكية مواطنين ليبيين هما عبد الباسط المقراحي والأمين خليفة فحيمة بتفجير طائرة أمريكية فوق مدينة لوكربي في اسكتلندا في كانون الأول 1988 أدت إلى مقتل حوالي 270 قتيل.
وفي 31 أذار من العام نفسه فرضت الأمم المتحدة حظراً جوياً وعسكرياً على ليبيا، وبعد عام واحد فرضت عقوبات اقتصادية، واشترطت لرفع الحصار تسليمها المتهمين لمحاكمتهما في لندن أو واشنطن بهذه التهمة.
تمسكت ليبيا بحقها بعدم تسليم المتهمين، وذلك حسب القانون الدولي الذي لا يسمح لأي دولة بتسليم أحد رعاياها إلا بعد توفر شرطين اساسيين هما:
ـ أن تكون هناك اتفاقية قضائية بين الدولتين (وهي غير موجودة).
ـ أن يكون هناك تشريع في القانون الليبي ينص على تسليم رعاياها للدولة المطالبة بهم
(وهذا أيضاً غير متوافر).
واستطاعت ليبيا بذلك حشد الدعم المطلوب لها من الدول العربية والأفريقية وعهدت بملف القضية إلى خبراء دوليين.
وقد رافق هذا الأمر مبادرة من السعودية وجنوب أفريقيا. وقد نجحا في إغلاق هذا الملف، فقد استطاعت ليبيا انتزاع اعتراف محكمة العدل الدولية باختصاصها بالنظر في هذه القضية حيث يعطي القانون الاسكتلندي فرصة كبيرة لإثبات براءة المتهمين في حال عدم تورطهما في الحادث.
وأبطلت بذلك كل محاولات أمريكا وبريطانيا كي تتراجع في آخر الأمر عن تسليم المتهمين كي تستمرا في لعبتهما تجاه فرض العقوبات خاصة بعد أن بدأ خرق الخطر الجوي من جانب بعض الدول.
وأرادت ليبيا غلق هذا الملف لتخوفها من محاولات الدولتين لجرها إلى الفخ الذي وقع فيه العراق فسلمت في 5 نيسان 1999م مواطنيها عبد الباسط المقراحي والأمين فحيمة المتهمين باعتداء لوكربي إلى هولندا لمحاكمتهما أمام محكمة أسكتلندية وعلى أثر ذلك علقت الأمم المتحدة العقوبات الدولية المفروضة على الجماهيرية الليبية، علماً أن منظمة الوحدة الأفريقية كانت قد رفعت جزئياً الحظر الجوي عن طرابلس الغرب من حزيران 1998م.
في تموز 1999م أنهت ليبيا أزمتها مع فرنسا عندما وافقت على دفع أكثر من 200 مليون فرنك فرنسي تعويضات لعائلات الضحايا الـ170 الذين سقطوا في تفجير طائرة «يوتا» الفرنسية فوق النيجر عام 1988م.
أما الولايات المتحدة وبريطانيا فكانت لديهما الرغبة في إنهاء هذه الأزمة. وإذا كانت واشنطن لا تزال تضع بعض العراقيل أمام إعادة تطبيع العلاقة مع طرابلس، فإن لندن بادرت سريعاً إلى إعادة العلاقات الدبلوماسية بدءاً من شهر تموز 1999.
وفي شهر آب من العام 2003 توصلت ليبيا إلى اتفاق مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا يقضي بأن تدفع ليبيا تعويضاً قدره 2,7مليون عن كل ضحية من ضحايا حادث لوكربي، هذا ما سوغ لفرنسا أن تطالب هي الأخرى بتعويضات إضافية لعائلات الضحايا الـ170 الذين سقطوا في تفجير طائرة «يوتا» الفرنسية.
ومع نهاية العام 2003 عرفت العلاقات الخارجية للجماهيرية مع الدول الغربية انفراجا واسعا بعدما أعلنت ليبيا تخليها طواعية عن برامجها لإنتاج أسلحة الدمار الشامل وقبولها لعمليات التفتيش، وقد جسد ذلك الانفراج تبادل الزيارات الذي تم مع مطلع العام 2004 بين المسؤولين الليبيين ونظرائهم من مختلف الدول الغربيةوالتي تأتي على رأسها كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.